يقع (تل دير علا) في الأغوار الوسطى شرقي نهر الأردن.
وفي الرابع عشر من إبريل 1964 أعلن H.J. Franken مدير حفريات هذا التل عن اكتشاف عدد من الرقم الطينية في الموقع تعود إلى نهاية العصر البرونزي المتأخر، أي إلى نهايات القرن الثالث عشر ق.م. ثلاث من هذه الرقم تحمل كتابة خطت على اللوح الطيني ساعة كان طريا. أما الباقي فقد كان يحمل مجرد نقاط لا يعرف معناها، وإن كان بعضهم يعتقد أنها أرقام حسابية. اللغة التي كتبت بها هذه (النقوش) ظلت غير معروفة، كما ألفباؤها ظلت عصية حتى الآن. وفي حفريات عام 1994 و2004 جرى العثور على عدد آخر من الرقم (1). بالتالي، صار يمكن الطمع في فك ألغاز هذه الكتابة. صحيح أن النصوص ما زالت ضئيلة الحجم، حتى بعد المكتشفات الأخيرة، لكننا صرنا على الأقل نملك حدا أدنى يسمح بالقيام بمغامرات جدية لحل أمر هذه الكتابة.
غير أن محاولات اكتناه سر هذه الكتابة بدأت باكرا جدا، ولم تنتظر اللقى الأخيرة. فقد أبدى وليم فوكس أولبرايت ملاحظة تقول أن الكتابة تبدي شبها مع كتابة الرقم المينوية. ومن هذا الشبه المفترض انطلق ليربط بين رقم دير علا وبين (الفلسط، الفلست)، أي الفلسطينيين القدماء، وانطلاقا من الفكرة الشائعة، ذات الأصل التوراتي، التي تقول أن أصل هؤلاء القوم يعود إلى جزيرة كريت.
ثم حاول فان دين براندن أن يفك رموز هذه الكتابة بناء على فرضية أنها تمثل كتابة عربية مبكرة. وكانت هذه في الحقيقة فكرة رائدة. أما هـ. غاديليز فقد اتفق مع براندن على أن بعض حروف هذه الكتابة تبدي تشابها من خطوط الجزيرة العربية المبكرة، لكنه لاحظ، من جانب آخر، أن حروفا أخرى منها تبدي تشابها مع الحروف الفينيقية.
رقمة من رقم دير علا
بعد هذه المحاولات بعقد من السنوات تقريبا حاول ز. مايلني حل رموز هذه الكتابة انطلاقا من فكرة الربط بين هذه النصوص وبين العالم الإيجي اليوناني، مفترضا أن لغة الرقم لغة إتروسكية. واللغة الإتروسكية لغة شعب إيطالي قديم سبق الرومان، وكان له تأثير كبير عليهم.
وفي العام 1975 حاول ماندنهول ترجمة رقمة واحدة من الرقم انطلاقا من فكرة أن الخط خط هيروغليفي لوياني Luwian في حين أن اللغة سامية. والهيروغليفية اللويانية كتابة كانت تستخدم في الامبراطورية الحثية في الفترة بين 1400- 1200 ق.م، إضافة إلى الكتابة المسمارية (2).
أما (شي) William H. Shea فقد انطلق في محاولته من أن ألفباء دير علا سامية وأن لغتها سامية أيضا، بل وأنها لغة قريبة من لغة التوراة،. أكثر من ذلك، فقد قرأ الرقم الثلاثة، التي لم يكن قد اكتشف غيرها بعد، على أنها تأكيد لحوادث توراتية محددة، وعلى الأخص قصة يعقوب الأسطورية في مخاضة يبوق! وليس هذا بغريب على الرجل، فقد (أرغم) نقش (عزبة سرطة) في فلسطين، الذي هو في الغالب نص كتبه تلميذ يتعلم الكتابة، على أن يتحدث عن سرقة الفلسطينيين القدماء لتابوت العهد المعروضة في العهد القديم. أي أنه أرغم النقش الغامض على أن يقرّ بقصة التوراة، بل أن يقر بها كتاريخ.
وعلى حد علمي، لم تنشر أي محاولة لقراءة رقم ديلا علا تشمل الرقم المكتشفة حديثا. فكل ما نشر من محاولات استند إلى الرقم الثلاث الذي اكتشفت في الستينات. لكنني سمعت من صديق أن هناك باحثا هولنديا سوف ينشر محاولة جديدة لقراءة الرقم خلال الأسابيع القادمة.
محاولة أخرى لفك اللغز
أما أنا، كاتب هذه السطور، فقد قادتني بحوثي في ديانة العرب قبل الإسلام مصادفة إلى رقم دير علا. وقد استهوتني فكرة فك لغز هذه الكتابة حتى تحولت إلى مشروع فعلي من مشاريعي. ومنذ ذلك الوقت وضعت صور الرقم أمامي على الشاشة، وحدقت فيها لعشر ساعات في اليوم أو أكثر، إلى أن بدا لي، في لحظة من اللحظات، أنني أمسكت بمفتاح حلها. وفي هذه المادة أقدم لمحة عن كيف توصلت إلى المفتاح الذي افترضت أنه فتح لي الباب للدخول إلى عالم هذه الرقم.
بدأ الأمر قبل أن يتحول اهتمامي بهذه الرقم إلى مشروع واضح، أي وقت أن كان الأمر كله مجرد فضول لشخص تغريه الألغاز فقط. فقد أثار انتباهي تكرار حرف محدد يشبه حرف V الإنجليزي:
إذ تكرر هذا الحرف 23 مرة على أقل تقدير في الرقم. وأقول على أقل تقدير لأن هناك حروفا أخرى تشبه هذا الحرف لكن ليس من المؤكد أنها هو. وقد افترض (شي) أن هذا الحرف هو حرف الميم. أما أنا فقد بدا لي أنه حرف النون. فالنون في اللغات السامية تستطيع أن يزيد من حضورها عن طريق التثنية والجمع، للغات التي تجمع بالنون، والصفات وصيغ المبالغة، كما في العربية. لذا فقد افترضت مثلا أن الكلمة أدناه في إحدى الرقم ربما تكون اسما منقولا عن صفة على وزن (فعلان):
وإذ افترضت أن الحرفين الأول والأخير فيها يمثلان حرف النون، فإن الأخير منهما لا بد أن يكون نونا زائدة ليست من أصل الفعل. ثم توقفت بعد ذلك عند كلمة مكون من أربعة أحرف، الحرفان الأولان فيها متشابهان، يتبعهما حرف ياء، لتنتهي بالحرف الذي افترضت أنه حرف النون:
وانطلاقا من تكرار الحرف الأول، والتكرار كعب أخيل كل الألغاز اللغوية، فقد قرأت هذه الكلمة- بعد أن استعرضت كل الكلمات العربية التي تبدأ بحرف مكرر- على أنها (ددين)، أي على أن الحرف المكرر هو حرف الدال. ولو صح هذا فإن الكلمة ربما تكون كلمة على علاقة بالجذر العربي الغامض (ددن)، الذي فسر على أنه يعني اللهو واللعب والطرب. قال الشاعر: أيها القلب تعلل بددن/ إن هميّ في سماع وأذن. كما أن هذا الجذر قد يكون على علاقة بالاسم (ددن)، الذي هو الاسم القديم لمدينة (العلا) عاصمة الديدانيين، في شمال الجزيرة العربية. ولعله أيضا يكون على علاقة بالاسم العربي (دودان)، الذي هو اسم جد بني (دودان)، الفرع الكبير والشهير من بني أسد. غير أن الحكمة السائدة تفترض أن الدائرة، أو نصف الدائرة، التي بداخلها نقطة لا بد أن تكون حرف عين لا حرف دال. وبناء على هذه الحكمة فقد قرأ (شي) الكلمة على أنها (ععيم) لا (ددين). وهي قراءة لا تقود إلى شيء في اعتقادنا.
وهكذا صرت أعرف حرفين من الألفباء العلائية: النون، والدال. الأول منهما بتأكيد أشد من الثاني. ولاحقا، تبين لي أن حرف الدال اللحياني يرسم، بالفعل، وفي الكثير من الحالات، على شكل نصف دائرة بداخلها نقطة، كما في الصورة أدناه:
حرف الدال في اللغة اللحيانية (3)
وكما نرى فالشبه بين حرف دير علا وحرف الدال اللحياني هذا كبير جدا. والفارق أن النقطة في الحرف اللحياني تكون إلى يسارنا، في حين أنها في رقم دير علا تكون إلى يميننا. لكن هذا ليس مشكلة كبيرة. فالحروف في الفبائيات السامية القديمة كانت تدار بسهولة نحو اليمين أو اليسار.
في كل حال، ظلت فكرة حرف النون أيضا تقلقني. فمن بين كل الألفبائيات السامية لا يوجد حرف نون يأخذ شكلا مشابها لحرف V الإنجليزي إلا حرف النون في الألفباء المندائية:
من أجل هذا لم يتقدم أحد سواي، في ما أعلم، بافتراض أن هذا الرمز في رقم دير علا هو حرف النون. لذا كان لا بد لي أن أحصل على تأكيد من داخل رقم دير علا بأن هذا الحرف هو حرف النون فعلا، حتى أستطيع المضي قدما في محاولتي لفك لغز رقم دير علا.
وفي ظهيرة أحد الأيام، وبينما كنت في الشرفة أحدق في الرقمة التي سميتها (الرقمة الأولى)، إذ بدا لي وكأن نص هذه الرقمة يقوم على توازن لغوي ما، على إيقاع ما.
الرقمة الأولى
الرقمة كما عند (شي)، الذي تبع في رسمها فرانكين مكتشف النقوش في الستينات. فهناك كلمة تتكرر مرتين في الرقمة، بحيث تسبقها كلمة وتلحقها أخرى، آخذة الموقع الأوسط. هذه الكلمة كما نرى مكونة من حرفين، والحرف الأول منهما هو ما افترضت أنه حرف النون:
وقد خطر بذهني أن التركيب المتوازن في الرقمة ربما حمل نسبا ما، أو امرا من هذا القبيل. أي أن الكلمة الوسطى ربما عنت (ابن). أي أننا قد نكون مع جملتين من طراز: فلان بن فلان [و] فلان بن فلان. لكنني لا أعرف كلمة من حرفين يمكن أن تطعي معنى الابن. وخطر لي ثانية أن الأمر ربما تعللق بخبر عن زواج. أي: فلان تزوج فلانة، وفلان تزوج فلانة.
لذا كان لا بد من حسم أمر الحرف الثاني في الكلمة. فتحديده بشكل صحيح، سوف يساعد على كشف التركيب المتوازن في الرقمة. بالطبع كان (شي) قد قرأ هذا الحرف على أنه حرف الكاف. بالتالي، فالكلمة عنده هي (مك). أما فقد اشتبهت في أن الحرف الثاني هو حرف الشين، أي أن الكلمة هي (نش). وحين وصلت إلى هذه النقطة، ركضت إلى القواميس العربية أبحث عن معاني الجذور: نشا، نشي، نشأ، بل ونشش. فوجدت ما ظننت أنه قد يشير إلى مفتاح حل اللغز. فجذر (نشا) يعطي معنى العلم، وعلم الكهانة على وجه الخصوص:
"نشيت الخبر: إذا تخبّرت ونظرت من أين جاء. ويقال من أين نشيتَ الخبر؟ أي: من أين علمته؟" (4) . وفي الحديث النبوي أن الرسول: "دخل على خديجة خطبها، ودخل عليه مستنشية من مولدات قريش، وقد روي بالهمز... والمستنشئة: الكاهنة، سميت بذلك لأنها تستنشي الأخبار، أي تبحث عنها من قولك: رجل نشيان للخبر [أي طالب له]" (5). أما الزمخشري في الكشاف فيورد الخبرهكذا: ودخلت عليها مستنشية من مولدات قريش، فقالت: أمحمد هذا؟ والذي يحلف به إن جاء لخاطبا. هي الكاهنة؛ لأنها تتعاطى علم الأكوان والأحداث وتستحثها.
إذن، فالكاهنة هي المستنشية او المستنشئة. وبعيدا عن صيغة الاستفعال، فإننا سنكون مع (ناشئة) أو (ناشية). وفي حالة التذكير مع (ناشئ) أو (ناشئ). عليه، فقد افترضت أن كلمة (نش) في الرقمة مثيل للكلمة العربية (ناشئ) أو (ناشي)، وأنها تعني: (كاهن).
ومع هذا الاستخلاص أحسست بأنني ربما أكون قد حصلت هذه المرة على مفتاح الرقمة، بل وعلى مفتاح رقم دير علا كلها. فقد عثرت على (كاهن) ما في صلب إحدى الرقم.
عليه، وانطلاقا من البناء المتوازن في الرقمة، فإن الرقمة تتكون من جملتين اثنتين. كل جملة منهما مكونة من ثلاث كلمات، والكلمة الوسطى في كل جملة هي كلمة كاهن. بذا يمكن افتراض أن الكلمة الأولى ستكون اسم الكاهن في حين أن الأخيرة في الجملة ستكون اسم الإله الذي يكهن له هذا الكاهن، او اسم القبيلة، قبيلته، التي يتكهن لها. وهذا يعني أن الكلمات الست في الرقمة تقول لنا ما يلي:
فلان كاهن كذا [و] فلان كاهن كذا.
وإذا صح هذا، فإنه يتبقى علي أن أتعرف على اسمي الإلهين، أو القبيلتين، واسمي كاهنيهما. وكنت في الواقع قد خمنت، من قبل، أن الكلمة الأخيرة في النص ربما تكون كلمة (لخم):
لكنني لم أكن املك دليلا على صحة هذا التخمين. لكن عثوري على كلمة (نس= كاهن) في النص يدعم هذا التخمين. ولاحقا اكتشفت أن واحدا آخر غيري، هو ميشيل شيفلين Michael Sheflin ، قدم اقتراحا يقول أن هذه الكلمة ربما تكون كلمة (لخم)، وانها قد تشير إلى الإله (لخم). غير أن محاولة شيفلين عموما لقراءة نصوص دير علا ليس فيها شيء مهم سوى هذا الاقتراح فقط (6). بالتالي، فربما كنت قد حصلت على جملة: (كاهن لخم)، أي كاهن الإله لخم، أو كاهن قبيلة لخم. ولو كان الأمر يخص إلها فإن من المحتمل أن لهذا الإله علاقة باسم مدينة (بيت لحم) في فلسطين، كما قدر أكثر من واحد. ولعل اسمه يعني: (الخبز) على كما قدرت أنا. لكن الاسم ربما يشير إلى قبيلة، كما قلنا. أي أن الجملة تعني: كاهن قبيلة لخم. ونحن نعرف أن ثمة قبيلة عربية كبيرة تدعى (لخم). كما نعرف مملكة اللخميين الشهيرين حلفاء الفرس. ومن المحتمل بالطبع أن اسم القبيلة، واسم اللخميين، على علاقة باسم هذا الإله. فحين يقال قبيلة لخم، فإن المعنى في الأصل: قبيلة عباد لخم.
تصحيح يحول الشين إلى سين
لكن في ما بعد، تبين لي أن علي ربما أن أصحح قراءتي لكلمة (نش) انطلاقا من النقوش اللحيانية. فحرف السين في اللغة اللحيانية، وليس حرف الشين، هو الذي يرسم، في كثير من الأحيان، على شكل حرف V تسقط على منتصفه شحطة عمودية:
صورة حرف السين في الأبجدية اللحيانية
بالتالي، فالكلمة ربما يجب أن تكون (نس) وليس (نش). وعند هذه النقطة وجدتني أنتقل مباشرة إلى (النسأة)- والمفرد منهم ناسئ- الذين هم طراز من الكهنة المشهورين عند العرب. وكانت الوظيفة الدينية الرئيسية لهؤلاء النسأة معادلة السنة الشمسية بالقمرية عبر زيادة شهر واحد على السنة القمرية كل ثلاث سنوات. وكانت عملية التعادل هذه تدعى النسيء، وقد حرمها الإسلام: "إنما النسئ زيادة في الكفر". يقول ابن حبيب عن النسأة هؤلاء: "النسأة: نسأة الشهور من كنانة... وكانوا فقهاء العرب والمفتين لهم في دينهم) (7). ويوكد لنا النويري، نقلا عن السهيلي، "أن نسيء العرب كان... تأخير الحج عن وقته تحرياً منهم للسنة الشمسية"(8). أي حتى يوافق الحج موعده المحدد بناء على التوقيت الشمسي. يقول سدير بن ثعلبة بن مالك بن كنانة، الذي كان فلمّسأ أيناسئا:
ألسـنا الـنـاسـئين على معـد
شهور الحل نجعلها حراما؟
يضيف الدكتور جواد علي : "ولا بد من إدخال )النسأة( في رجال الدين. فقد كان الناسئ هو الذي ينسئ النسيء، يعين موسم الحج، ويثبته للناس. فهو إذن فقيه القوم وعالمهم ومفتيهم في أمر الحج" (9).
بناء عليه، فقد افترضت أن كلمة (نس) في الرقمة تعني (ناسئ)، أي الكاهن الذي ينسأ الشهور، ويعادل التوقيت القمري والشمسي. لكن ربما يجب أن نشير هنا إلى ان وجود (المستنشيات) أو (المستنشئات)، بمعنى الكاهنات، إلى جانب (النسأة) ربما كان يشير إلى أصل سيني وشيني لهذه الكلمة في لغات الجزيرة العربية. أي أننا ربما كنا مع (ناشئ) و (ناسئ) في الوقت ذاته، وبالمعنى ذاته.
في كل حال، فمن المهم أن نلحظ أيضا أن ثمة نقطة وضعت بعد نهاية كلمة (نس) في الرقمة، كما في الصور أعلاه. وهو ما قد يضع احتمال أن تكون هذه النقطة تمثيلا لحرف الهمزة في أبجدية دير علا. وإذا صح هذا فإن الكلمة يجب أن تقرأ (نسأ) وليس (نس). و (نسأ) قريبة جدا من كلمة (ناسئ) العربية. غير أننا في الحقيقة بحاجة إلى التثبت نهائيا من أن النقطة التي على السطر في رقم دير علا تمثل الهمزة بالفعل، وأنها همزة أينما وقعت، وليس فقط حين تقع في نهاية الكلمة.
الناسئ اللحياني
أما بخصوص كلمة (لخم) وإن كانت اسم إله أو اسم قبيلة، فإن النقوش اللحيانية تدعم بقوة فرضية انها اسم إله. لذا فلا بد أن نمضي إلى واحد من هذه النقوش وردت فيه كلمة (نسأ):
(1- شعت/ نسأ/
2- هنأكتب/ بن
3- تم شمس حيو
4- حج لذي غيبة
5- بالمصد (الجبل) و (قرّب)
6- الصلم فرضه (10).
إذن، فنحن في هذا النقش مع (شعت نسأهنأكتب). أما شعت فاسم بسيط معروف في النقوش العربية الشمالية والجنوبية. فقد ورد في المعينية والنبطية والسبئية والصفائية. وأما (نسأهنأكتب) فقد افترض أبو الحسن أنه اسم مركب: "نسأهنأكتب: علم لشخص مركّب من نسأ واسم المعبود [الإله] هنأكتب. وهذه أول مرة يرد فيها الاسم في الكتابات اللحيانية بهذه الصيغة. ولكن نسأ ورد مركبا مع أسماء آلهة أخرى. ففي اللحيانية ورد بصيغة: ن س أ له.. وفي الثمودية: ن سأ م ن ت" (11).
بالتالي، فأبو الحسن يعتقد أن (نسأهنأكتب) اسم مركب مثل (عبد شمس) أو (عبد مناة). لكن هذا غير صحيح. فاسم الرجل واضح تماما وهو (شعت). ولو كان الاسم الثاني مركبا لكان على الصيغة أن تكون: (شعت بن نسأهنأكتب). وبما أنه لا وجود لكلمة (بن)، فإن نسأهنأكتب هن بدل لغوي لشعت يحدثنا عن مهنة شعت. فكلمة (نسأ) هنا تعني: كاهن. أي أن التعبير التعبير عنا يجب أن يقرأ: شعت، ناسئ الإله هنأكتب. أما الإله هنأكتب فهو ذاته الإله (الكتبي) عند الأنباط.
والحقيقة أن الدكتور الذييب قد اقترب، بشكل ما، من أن يتوصل إلى هذا. ففي ملاحظة له حول النقش يقول: "ونحن نرجح استنادا إلى لوحتي النقش المرافتين (أنظر أبو الحسن 1999، ص 234)، القراءة التالي:
"1- ش ع ت نسأ (لقب ديني)
2- الإله الكاتب" (12). وهكذا، فقد توصل الذييب إلى أن (نسأ) هنا لقب ديني، مع أنه لم يدرك طبيعة هذا اللقب. أما نحن فأوصلنا استنتاجه إلى نهايته المنطقية، وهي أن نسأ هنا كاهن. أي أننا مع كاهن للإله هنأكتب، اسمه شعت.
إذن، فالنقش اللحياني من صنع شعت، كاهن الإله هنأكتب، الذي هو ابن (تيم شمس حيو)، وقد حج إلى مقام الإله (ذي غيبة) في الجبل، وقدم قربانا على شكل صنم، فتقبل الإله قربانه. نعم، كاهن الإله هنأكتب يقدم قربانا للإله ذي غيبة، ذلك أن الناس أيامها كانوا أبعد ما يكون عن فكرة الإله الذي يرفض الإلهة الآخرين غيره.
بالطبع، علينا أن ندرك أن هناك من كانوا في تلك الأوقات يسمون أبناءهم (نسأ الإله كذا)، أي (كاهن الإله كذا) تبركا، كما رأينا في (نسأ مناة، و نسأ له)، لكن من دون أن يكون هؤلاء كهانا في الحقيقة. كذلك وردت أسماء مفردة مثل: نسأ، ونسأه، بمعنى كاهن. لكن النقش الذي بين أيدينا مختلف تماما. فهو يتحدث عن شخص معروف الاسم (شعت)، يعمل كاهنا للإله هنأكتب.
بناء عليه بالتالي، فنحن مع الكلمة ذاتها في رقمة دير علا وفي النقش اللحياني. وهذا يعني ان الكلمة في نص دير علا يجب أن تكون (نسأ) وليس (نس). وهذا يزيد من قوة فرضية أن النقطة بعد حرف السين في رقمة دير علا تمثيل لحرف الهمزة.
وللحق فإنه ربما كان علينا أن نقرأها الكلمة في رقمة دير علا وفي النقش اللحياني على أنها قريبة جدا في اللفظ من كلمة (ناسئ)، أي بإضافة حرف الألف. ذلك أن حروف العلة لا تكتب في كثير من اللغات السامية.
وكما نرى، فوجود نسأ- كاهن للإله هنأكتب يقوي من فرضية أن الرقمة التي نحن بصددها تتحدث عن كان (كان الإله لخم)، وإن كان علينا أن لا نرمي باحتمال أن الأمر ربما تعلق بقبيلة لخم. أما اسم كاهن هذا الإله، الذي هو الكلمة الأولى في الجملة، فهو (وزن). عليه فالجملة كلها تقول: وزن كاهن لخم. وهذا الاسم هو اسم واحد من نجمين شهيرين في السماء العربية (حضار والوزن) اللذين يسميان: المحْلَفين. وهما يطلعان قبل سهيل اليماني، وقد يختلطان، او يختلط أحدهما به. عليه، فاسم الكاهن ذو رنة دينية واضحة.
في كل حال، فقد صار لدينا ثمانية أحرف محددة من ألفباء دير علا في ما يبدو: نون، سين، همزة، لام، ميم، خ، واو، زياي. وإذا أضفنا إليها حرف الدال، نكون في الواقع من تسعة أحرف. وهذا يعني اننا صنعنا بالفعل مفتاح رقم دير علا.
أما الجملة الأخرى في الرقمة، والتي تمكنا من قراءتها لاحقا، فتقول:
وهي تقول: مذن/نسأ/ وتني.
ولعل الكلمة الأخيرة أن تكون وتنئي إذا كانت النقطة في أي مكان وجدت فيه تعني همزة. وهذا ليس مؤكدا تماما بعد. فما نملكه أنه تكون همزة حين تكون في آخر الكلمة. أما الكلمة الأولى مذن فقد احترنا في البدء في قراءتها. إذن أن حرفي الذال والحاء وتشابهان جدا في ما نعتقد في ألفباء دير علا، وليس من السهل تمييزهما، كما نرى في الكلمة أدناه من الرقمة الثالثة:
أما الاسم (مذن) فلعله (ماذن) أو (مذين)، من الجذر (ذون)، الذي يعطي معنى التنعّم: "ابن الأَعرابي: التَّذَوُّن النعمة" (13). أو أنها من جذر (أذن) الذي يعطي معنى التقدم والرئاسة: "كل من تقدّم: فقد تَأَذَّن. والأَذِيْن: الزعيم" (14). أما الاسم وتني فهو من جذر (وتن) الذي يعطي معنى الثبات والدوام. بالتالي، فهو الإله الدائم والثابت. وهو إله لا نعرف عنه شيئا.
بذا يكون ما قالته الرقمة لنا: (ماذن كاهن وتني. [و] وزن كاهن لخم).
وهكذا نكون قد تعرفنا ربما على نصف ألفباء دير علا. اما النصف الباقي فسوف نتركه لكتابنا القادم عن رقم ديرعلا. بالطبع يجب أن اشير إلى أن حروف الواء والياء والتاء كانت معروفة من قبل. أي أنني لست من حددها. ثم يجب أن أشير عإلى الفارق بين التاء والخاء، كما رأيناهما في كلمتي (لخم) و (وتني). وهو فارق يتعلق بالحجم أساسا. فالخاء أكبر حجما من التاء. كما انها تشبة غشارة الضرب في الرياضيات ×. اما التاء فأقرب إلى صليب عادي. وهذا هو أيضا الفارق بين التاء والخاء في الألفباء الصفائية. وقد لاحظ ذلك رينيه دوسو من قبل: (التاء: لا يكاد هذا الحرف يتميز من حرف الخاء في الأبجدية الصفوية إلا بصغر حجمه) (15). وهذا يعني ان التقليد الصفائي في هذا الحرف يسير مع تقليد دير علا الأقدم.
ويتبقى علي أخيرا، وانطلاقا من كل ما سبق، ومما توصلت إليه لاحقا ولم أعرضه في هذه المادة، أن أتقدم بعض الأحكام العامة حول رقم دير علا:
أولا: يبدو أننا في رقم دير علا مع لغة قريبة جدا من اللغات العربية الشمالية. بل إننا قد نكون في الحقيقة مع لغة عربية شمالية، هي في الواقع جدة اللغات اللحيانية والثمودية والصفائية.
ثانيا: هذا يعني أن (عرب) شمال الجزيرة العربية كانوا موجودين على ضفتي نهر الأردن منذ نهاية العصر البرونزي، أي منذ نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد. لقد كانوا في دير علا بشكل مؤكد، لكنهم ربما كانوا في بيسان إلى الشمال قليلا، على الأغلب. فما بين دير علا وبيسان مجرد رمية حجر. بل لعلهم كانوا في منطقة الأغوار كلها، بما فيها أريحا كذلك. وهذا يقدم صورة مخالفة تماما لما نعرف.
ثالثا: وإذا كان هؤلاء يملكون بلدات بمعابد، وكتابات، فهذا يعني أن من الممكن الافتراض أنهم كانوا على ضفة نهر الأردن قبل قرن واحد، على أقل تقدير، من تاريخ الرقم. أي أنهم كانوا هنا في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، بل وربما قبله.
رابعا: يبدو أن الرقم تمثل نصوصا تعليمية. أي أنها نصوص كتبها معلمون أو طلاب في سياق فصول تعليمية تابعة للمعبد. فالنصوص بسيطة جدا، ومقطعة. وكل جملة أو جملتين أو ثلاث جمل على أبعد تقدير تعرض لموضوع مختلف. وهي جمل متوازنة لغويا، وفيها قدر من الجناس والإيقاع. بالتالي، فليس هناك من قصة مشوقة لها بداية ونهاية في رقم دير علا، كما افترض (شي). فهي ليست أكثر من رقم نسخية يتعلم عبرها التلاميذ الكتابة. إنها بشكل ما (دفتر نسخ) طيني قديم. ولعلنا سنسمي كتابنا الذي نعده عن نصوص دير علا بهذا الاسم: (دفتر نسخ من دير علا في نهاية العصر البرونزي).
خامسا: يبدو لنا أن خط دير علا خط وسط بين الخطوط العربية الشمالية من جهة، وبين الخط السينائي المبكر proto-sinaitic من الجهة الأخرى. فثمة حروف فيه، مثل حرف الراء الذي يرسم على شكل رأس بشري، تحيلنا مباشرة إلى نقش أبي الهول، الذي عثر عليه عام 1999، في الطريق القديمة بين أبيدوس وطيبة، على الضفة الغربية لنهر النيل. بالتالي، فنحن مع خط أقدم من الخطوط الفينيقة، وأكثر ارتباطا منها بالخط السينائي المبكر، خط الألفباء السامية الأولى.
سادسا: اما كيف وصل هذا الخط إلى ضفتي النهر في فلسطين والأردن فأمر بحاجة إلى حسم. فهل مر من سيناء، عبر جنوب فلسطين إلى الأغوار الوسطى، منطلقا بعد ذلك إلى الجزيرة العربية؟ أم أنه عبر من مصر إلى شمال الجزيرة العربية، ثم عاد مندفعا نحو الغرب ليصل إلى نهر الأردن؟ أو بصيغة أخرى: هل حصل سكان دير علا على أبجديتهم من هنا، على ضفتي النهر في فلسطين والأردن، ثم أرسلوها إلى موطنهم الأصلي، عبر صلاتهم التي لم تنقطع مع هذا الموطن؟ أم أنها كانت هناك في موطنهم الأصلي في شمال الجزيرة العربية، ثم جلبوها معهم من هناك وأسكنوها ضفتي نهر الأردن؟
هذه مجرد ملاحظات عامة سريعة. وسوف يكون لنا وقفة أطول نأمل أننا سوف نعرض فيها فكنا النهائي لألفباء دير علا كلها، وترجمة نصوصها. فقد تعرفنا، في ما نزعم، على الغالبية الساحقة من حروف هذه الألفباء، مما سيجعلنا قادرين على تقديم ترجمة لنصوص دير علا وفك ألغازها.
* لمراسلة الكاتب وإرسال الملاحظات: zak_cyclamen@yahoo.com
المصادر:
1- العرض مأخوذ عن مادة للدكتور زيدان كفافي على شكل نسخة بي دي ف:
Zeidan A. Kafafi1, The Archaeological Context of the Tell Deir ‘Allā Tablets
والمادة موجودة على الموقع التالي:
2- عرض محاولات فك لغز الرقم المتتالية مأخوذة من شي:
WILLIAM H. SHEA, THE INSCRIBED TABLETS FROM TELL DEIR cALLA, PART 1, The Biblical Research Institute, Washington, DC 20012
والمادة منشورة على الموقع التالي:
3- رسم الحروف اللحيانية مأخوذ من أبو الحسن، حسين بن علي دخيل الله، نقوش لحيانية من منطقة العلا؛ دراسة تحليلية مقارنة، وزارة المعارف السعودية، 2002.
4- ابن منظور، لسان العرب، جذر (نشا).
5- المصدر ذاته، المادة ذاتها.
Michael Sheflin, The Deir Alla Corpus,http://msheflin.blogspot.com/2012/06/deir-alla-corpus.html
7- ابن حبيب، المحبر، نسخة إلكترونية من: www.alwaraq.net
8- النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، نسخة إلكترونية من: www.alwaraq.net
9- د. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، نسخة إلكترونية من: www.alwaraq.net
10- أبو الحسن، حين بن علي دخيل الله، نقوش لحيانية من منطقة العلا، وزارة المعارف السعودية، 2002، ط 1، ص 40
11- المصدر ذاته، ص 41.
12- الذييب، سليمان بن عبد الرحم، نقوش ثمودية من سكاكا، الرياض 2002، ص 82.
13- ابن منظور، لسان العرب، مادة (ذون)
14- الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة، مادة (الذال والنون).
15- دوسو، رينيه، العرب في سوريا قبل الإسلام، ترجمة على الدواخلي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1959، ص 69.